أ.د. ناهض موسى طلفاح
يعد غسيل الدماغ Brain Wishing أسلوبا من أساليب الحرب النفسية يستخدم لتغيير اتجاهات الأفراد متبعا وسيلة تقنية محددة و ذلك عن طريق الإقناع القسري المقنن او بعض العمليات القسرية أو الإجبارية لإكراه الأفراد لتغيير اتجاهاتهم و تعديل أفكارهم أو معتقداتهم والتحول عنها. وشاع استخدامه في الحربين العالميتين الاولى والثانية لتحويل او تحييد الفرد الأسير عن أفكاره واتجاهاته الوطنية وقيمه وأنماط سلوكياته أو كبت معتقداته أو الاتجاهات التي كان يتبناها مع الإيمان أو الاعتقاد بالنقيض منها وغير ذلك.
وهناك بعض المفاهيم العامة التي ترتبط الى حد ما بعمليات غسيل الدماغ قد تكون غير واضحة للعيان تخاطب العقل اللاواعي للانسان في عهدنا الراهن مثل :
التضليل الاعلامي الذي يعرف بأنه (عمليات غرس مفاهيم معينة تقود الخصم إلى الاقتناع بأفكار هي في حقيقتها لا تعبر عن الحقيقة ولكن من مصلحة من يقوم بعملية التضليل أن يقنع خصمه بها وتلك القناعة تقوده إلى موقف معين من الضعف يؤدي بالتالي إلى هلاكه).
والتخريب النفسي الذي يهدف هذا الى التأثير على المعنويات حيث يستخدم اسلوب التوجيه النفسي لخلق اتجاه عام لدى الجماهير في البلد المعادي يدفعها الى القيام بالاضطرابات و كذلك نشر الذعر و الفوضى ، و نشر الشائعات التي تؤدي الى خلق الخوف المستمر و الذعر بالإضافة الى نشر الآراء المضللة...
هذا وان آلية عمل غسيل الدماغ تتطلب مرحلتين :
اولا: مرحلة التذويب او مرحلة التخلي عن الأفكار القديمة غير المرغوب فيها وتهدف إلى وضع الفرد في وضع يشك معه في القيم التي يحملها لدرجة يميل إلى تغييرها.
ثانيا: مرحلة التغيير او مرحلة التحلي بالأفكار الجديدة المرغوب فيها بالعمل على إعادة تعليم الفرد الأسير بالمعتقدات والأفكار التي يراد أن يكون عليها وتعتمد هذه العملية على بعض الأسس النفسية المعروفة كالإذلال وإنهاك الفرد فكريا ونفسيا وجسديا لدرجة التعب والإعياء وضعف القدرات الفكرية، والقدرة على الانتباه والتركيز،ويصبح الفرد في هذه المرحلة في حالة تشتت وضياع ،فضلا عن الإيحاء النفسي والتأثير على الجوانب النفسية والعقلية والسلوكية ، اذ تتحرك الإيحاءات في اتجاه واحد مركز بفعل الضغط الجسدي والنفسي الكبيرين، فتضعف لديه القدرة على التمييز العقلي بين أفعاله وأفكاره، وبين ما يوحي إليه عن طريق مستجوبيه. مع تنمية الإحساس بالذنب لديه في ان يطلب منه مراجعة تاريخ حياته السابقة وتبرير أفعاله السياسية والشخصية والأخطاء التي قام بها مما يثير لديه الإحساس بالذنب والخطأ وبالتالي كراهية الذات، والإحساس بالدونية و الضعف، وعدم الثقة بالنفس ... مما يجعله يتقبل آراء الآخرين وأفكارهم ويخدم مصالحهم.
الا ان اللافت في الامر قيام بعض الجماعات الارهابية ومنظماتها بأساليب مدروسة من تغيير الاتجاهات وتغيير السلوك مشابه الى حد ما من عمليات غسيل دماغ وبإرادة من المستهدفين او المنتمين الى هذه الجماعات باستخدام الاقناع اوالجهد المنظم للتأثير على آراء الآخرين وأفكارهم بحيث يجعلهم يقبلون ويوافقون على وجهة النظر المطلوبة. فهناك ما يعرف بحالات الإغواء القهري بان تعمد جماعات او منظمات الارهاب الى عملية التعرية او التجريد مع افرادها، فيتم مهاجمة هوية العضو الجديد ويتم عملية خيانة الذات وينتهي الفرد الى الحد الفاصل ،اذ ينبذ حياته القديمة ويتبرأ منها، بما في ذلك الأسره والاهداف الذاتيه ، ويستسلم للجماعة وتعاليمها. ثم المرحلة التالية –عملية غرس المعتقدات-بقمع وعقاب الهوية السابقة الاولى ، وإثابة الهوية الجديدة . وتكون المرحلة النهائية متمثلة في موت الذات القديمة وإعادة ميلاد الذات الجديدة كونه عضوا في جماعة جديدة.
وقد تلجأ الجماعات التدميرية الى اسلوب أعنف وأشد من ذلك باتباع واحد من أساليب تدمير الذات، أي تدمير ذات الأعضاء الذين ينزلقون للانتماء إلى مثل هذه الجماعات، وهذا التدمير الموجه إلى الأعضاء يتم من خلال مسارين؛
الأول منهما جسديا حينما يتحول العضو إلى قربان لتحقيق أهداف الجماعة، والمسار الآخر عندما يتم إلغاء شخصية العضو وحاجته وعلاقته مع الآخر وعلاقته بالمحيط و بناء ذات خارجية عنه هي ذات الجماعة.
ويستنتج من هذا أن هناك آليات تكوينية تتبناها هذه الجماعات شبيه بآليات غسيل الدماغ أو التنشئة الجديدة أو صناعة للحاجات والرغبات من خلال جملة من الوسائل والأساليب التي يمكن ايجازها بالآتي:
1 - العزل وإلغاء الهوية:
تعمل الجماعة التدميرية من خلال التنشئة والتوجيه والإرشاد والدعوة إلى النسق المعرفي الذي تروج له على قطع العلاقات مع الآخر او رفض الآخر فينعزل الفرد عن أقرانه وعن جماعته المحلية وجماعة الأصدقاء وهذا الانعزال له مظاهر متنوعة، منها وصف الآخر بأنه عدو ومصدر للتهديد و نسق معرفي منحرف وغير قابل للإصلاح وهناك حتمية الصراع معه،.....الخ، وهناك أنساق معرفية وانفعالية موجودة في المجتمع (وفي أي مجتمع) تقوم بهذه العملية بدون وعي منهم فقد تكون الأسرة أو الإعلام أو الأيدلوجية السياسية أو السياسة العنصرية أو المؤسسة الدينية ولا يعني هذا إنها حاجات تدميرية بقدر ما يشير إلى إنها تقوم بالخطوة الأولى لإنشاء مثل هذه الجماعات أو توفير المادة الخام لتشكيلها.
2- صناعة الهدف او الحاجة
تعتمد الجماعات التدميرية على معادلة بسيطة جدا في صناعة الهدف او الحاجة تعتمد على :
- عملية صهر الفرد في الجماعة الجديدة من أجل ذات جماعية يعبر الفرد فيها عن ذات الجماعة وتتجسد في الجماعة ذات كل فرد.
ويتم التركيز على الموت كمعادل موضوعي للحياة فنرى أن الجماعات اللا دينية التدميرية تحول الموت في سبيل أهداف الجماعة إلى شيء مقدس جدا بل أفضل من الحياة أما الجماعات التي تغلف صبغتها بالدينية فتعطي للموت مساحة اكبر من الحياة وتعمل على تحريف السلوك الطبيعي للوصول إلى الهدف عبر القرارات المغلوطة للدين. وأطلق عالم النفس فروم لفظ ((ذوي الخلق المتسلط)) الذي ينتمي اليه الإنتحاريون الذين يقدمون على عمليات انتحارية وهم في حالة من النشوة والانجذاب تنفيذا للرسالة دون تفكير في الموت، وانما لما يحققه من مزايا على ما يعتقدون. وهذا يمثل المادة الخام للجماعة التدميرية والرافد الأساسي لأنساقها المعرفية والانفعالية مما يجعل من المستحيل معالجة هذه الجماعات التدميرية دون معالجة تلك التيارات التي تمثل حاضنة معرفية وانفعالية لتفريخ هذه الجماعات.
3- الهوية الجديدة:
يعتبر الحصول على هوية الجماعة التدميرية شيئا مشرفا وعظيما لدى الفرد المنتمي المنتمي لهم وخطة أساسية في تحقيق الهدف.
4- الإعداد:
وهي أهم مراحل تكوين الجماعة التدميرية ومرحلة أساسية وطويلة نوعا ما في تهيئة الفرد أو العضو للمرحلة اللاحقة وهذا الإعداد: - متنوع بين الإعداد الجسدي والنفسي والمعرفي ومكثف بدرجة كبيرة.
5- الممارسة:
وفيها يتم تدمير الذات للآخر عبر آلية الموت او الإفناء والنتيجة هي فناء الذات أو الآخر حيث يوجه الموت للآخر وفي حالة بقاء الجماعة التدميرية فإنها تقيم نظامها لا لتعود لتنتمي للعالم مرة أخرى بل لتعزل نفسها بصورة اشد واشد وتمارس صهرا اشد للأعضاء لتحويلهم إلى ذات جماعية، فنرى إمارات تغيب عن ذاكرة الواقع لتتراجع فقط إلى ما في الماضي، أو نرى أنظمة اليوتوبيا تقتل في الإنسان روحه لتبقي فقط القالب الذي صنعته له وكلاهما يعاديان العالم ويشهران الموت أمام وجه الإنسانية..والله المستعان.